فـــراق حبيــــب
من الأشياء الشاقة على النفس أن يجد الإنسان نفسه مضطرا إلى ممارسة الحياة بأسلوبه المعتاد وهو عاجز نفسيا عن ذلك.. يجاهد الإنسان ويضغط على نفسه ويدفعها دفعا بصدر ضيق وعقل ذاهل وقلب مكلوم.. ولكنه مضطر.. مضطر أن يستمر.. فالحياة يجب أن تستمر.. فكل شي يتحرك من حوله.. ولا يستطيع هو أن يتوقف بحظة.. ولا أحد ينتظر .. ولا أحد يرحم ولا أحد يقدر.. والمتعاطفون قليلون.. ولابد أن يكونوا من أصدق المقربين حتى يشعروا ويتألموا ويتعاطفوا ويقدروا..
.. ولا شيء يؤلم قدر فراق الحبيب .. ولكن يظل هناك أمل اللقاء.. ولا فرحة توازي فرحة اللقاء بعد طول اشتياق..
.. ولكن هناك فراق لا يعقبه لقاء أبداً إنه فراق الموت.. وذلك أسوأ ما في الحياة.. ولقد عرفت الاكتئاب بحكم مهنتي على مدى ربع قرن .. عرفت قدر حزن المكتئب وقدر معاناته، ولكن لا توجد أسوأ من لحظة فقد إنسان حبيب عن طريق الموت.. أكثر لحظات الحزن كثافة وعمقا ً وضراوة، تضرم نارا في كيان الإنسان كله.. إنها نار الحزن التي تكوي وتحرق وتهلك..
ولا أتصورها أقل من نار جهنم.. ويستسلم إليها الإنسان.. إنه المحترق الوحيد الذي لا يحاول أن يطفئ ناره..
..وبموت الحبيب يفقد الإنسان كل إحساسه بالحياة.. ينظر إلى الحياة باستخفاف.. يرى كل شي من حوله سخيفا تافها بلا معنى، ويزهد كلية في أن يستمر وأن يشارك في هذه اللعبة السخيفة.. ويتمنى الموت.. وهنا ينبثق لدينا معنى جليل للحب ولمعنى الحياة، وهو أن الحياة تكتسب معناها وقيمتها من خلال إنسان آخر نعيش معه ونحبه ويحبنا، وأن قوة الدفع التي تجعلنا نسعى ساعات النهار وبعضا من ساعات اليل نستمدها من القلب الذي ينبض بحب إنسان، ونستمدها من نبض قلب هذا الإنسان الذي يحبنا.. وتخلو الحياة من كل شيء جميل إذا لم يكن في حياتنا مثل هذا الإنسان.. وتموت الحياة إذا مات هذا الإنسان..
.. ما أفضع الموت.. إنه يغتال فرصة استمرار الحياة بجوار من نحب.. إنه يغتال المستقبل.. وبالرغم من أن الحياة تستمر، إلا أن بقعة مرة تغمر جزءا من القلب تفسد مذاق أي شيء، فتجعل الاحساس بأي فرحة منقوصاً، وبقعة مرة تغمر جزءا من العقل تجر الإنسان إلى اجترار الذكريات، فيعيش الإنسان لحظات حية مع حبيبه الذي فقده. ولكن ياللقسوة فسرعان ما تجره إلى الواقع، فيدرك حقيقة ما قد وقع وصار، وأنه من المستحيل أن يستعيد حبيبه، وأن كل ما يملكه هو رصيد الذكريات، ولكن لا حاضر ولا مستقبل معه، فتنتابه لحظات يأس وعجز ورفض وغضب..
.. ومشكلة الإنسان أن حياته لا تشكل إلا من خلال إنسان آخر يشاركه سنوات عمره.. ونسيج العلاقة يغذى ويدعم ويثرى بمرور الأيام.. بحلوها ومرها.. الأيام مسؤولة عن ذوبان إنسان في آخر.. وهذا يعطي لحياة الإنسان هدفا ومعنى وقيمة.. إنه التحام عضوي ونفسي نطلق عليه اسم الحـــب، ولا يستطيع الإنسان بإرادته أن يتحلل منه وإلا شعر بالضياع.. ولكن الموت يفرض عليه ذلك.. الموت ينتزع منه هذا الجزء الذي تداخل في تكوينه.. ينتزعه من كل خلية .. فالأمر ليس انقساما أو انشطاراً، ولكنه تحلل وتفكك وضياع.. ومهما حاولت الحياة أن تدفع بالإنسان بعد ذلك أو حاول هو أن يدفع نفسه، إلا أن شيئا كبيرا يكون قد مات داخله، ولا تغادره الحسرة حتى يموت هو الآخر، ولا يغادره الأسى مهما أغدقت عليه الحياة بعد ذلك.. ويصعب على الإنسان أن يحب بعد ذلك، بل يكاد يكون ذلك مستحيلا، فمحو السنوات مستحيل، والحب هو هذه السنوات، فإذا كان الإنسان قد عاش عشرين أو ثلاثين سنة مع حبيبه الذي مات، فهذا معناه أنه عاش معه أهم سنين عمره.. عاش معه الكفاح والألم والأمل في قارب واحد واجها فيه أعاصير هزت القارب وتغلبا عليها، وأعقبتها كما تعقب كل الأعاصير أيام صفو وصفاء وهناء.. دارا مع الزمن دورته فأحرقتهما شمس وأدفأتهما شمس أخرى، هزهما برد قارس، وأنعمهما نسيم كالحرير، أغرقهما مطر قاس، وبللهما ندى رقيق.. بكيا وضحكا، استيقظا وناما، تكلما وصمتا، جريا وتوقفا، أكلا وشربا، جاعا وعطشا، تشاجرا وتصالحا، قرأا وسمعا وطربا وسافرا وتعانقا وتحابا..
والغريب في أمر المحبين اللذين عاشا معا سنوات طويلة.. عشرين أو ثلاثين أو أربعين.. أنهما يتسليان أكثر بوحدتهما، ويضجران بوجود الناس من حولهما.. أن يكونا معا هذا أمتع من وجودهما بين الناس..
في البداية لا يصدق الإنسان أن حبيبه قد مات.. هكذا يبدأ الإحساس بالأسى.. والأسى بلغة الطب النفسي معناه الحزن من أجل فقد إنسان عزيز.. وبالرغم من أننا نرى الموت من حولنا في كل يوم إلا أننا لا نصدق أن الحبيب قد مات ولن يعود.. ننتظره.. نتوق إلى أن يطرق الباب ويدخل فجأة.. ونتوقع أن يجيء ليتناول معنا فنجان قهوة في الموعد المعتاد..
الأسى بدايته الصدمة.. ثم الإنكار.. وبالرغم من أن النهاية أحيانا تكون متوقعة بسبب مرض ما إلا أن لحظة الغروب تبدو وكأنها اختفاء للشمس وسط النهار .. فلا أحد يصدق أنه سيفقد حبيبه مهما كان نوع المرض لأن لا أحد يصدق أن يفقد عمره الذي مضى والذي هو آت..
.. وبعد الصدمة والإنكار يأتي الحزن العميق البليغ.. ويفقد كل شي في الحياة رونقه وطعمه وزهوه ومعناه.. يبدو كل شي ساكناً باهتاً، يفقد المحزون شهيته للطعام ويضطرب نومه ويشعر بالضعف والوهن.. ويتمنى ألا يستيقظ أبدا من نومه.. والصباح هو أثقل الأوقات وأصعبها.. ويمضي اليوم بطيئا ثقيلاً، ويضطر الإنسان المحزون إلى أن يلبس قتاعا ليبدو متماسكاً، إلا أنه يكون متهدما من الداخل كأقدم بيت هوى..
.. والتوحد مع الحبيب الذي مضى يؤدي إلى الإحساس بالأعراض التي عانى منها قبل موته.. فتأتي آلام الرأس أو المعدة أو الظهر أو القلب.. وكأني يا حبيبي أريد أن أقاسي مثل ما قاسيت .. أريد أن أعاني بنفسي الألم الذي عانيت منه أو أشد منه.. جزء مني أصبح فيك .. وجزء منك داخلي.. ولذا فلابد أن أشعر بمثل ما كنت تشعر.. فإذا كانت ضربات قلبك تسرع وتتضطرب وهي التي هددت حياتك، فلتسرع ضربات قلبي وتضطرب ثم يتوقف مثلما توقف قلبك.. وإذا كانت عضلاتك قد وهنت وضعفت وتوقفت، وإذا كان لسانك قد توقف، ولم تصبح لك غير عينيك لتتكلم بهما، فليصبني مثل ما أصابك حتى تكون لي نفس النهاية..
.. والحقيقة العلمية تقول إن نسبة كبيرة من الناس تموت بعد موت الحبيب، أو على الأقل تعاني من أمراض فعلية تداهمها بسبب الحزن الشديد، أو أضعف الإيمان تصاب بأعراض جسدية عادية تشابه أعراض أحبائها قبل موتهم..
يا لقسوة الزمن حين ينتزع حبيبا من حبيبه...
وقد تطول حالة الأسى سنة وسنة وسنة .. والأمر حينئذ قد يحتاج إلى تدخل طب نفسي للمساعدة بحبوب لتوقف الاكتئاب وبكلمات تساند القلب والعقل..
يحتاج الإنسان في هذه المرحلة إلى صديق قريب حبيب..
ويحتاج إلى أن نساعده ونسانده ليستأنف عمله ويغرق فيه..
ولا يجب أن ننصحه بإجازة ترويحية، لأن ذلك سوف يضاعف من إحساسه بالذنب.. فالإحساس بالذنب أخطر وأسوأ المشاعر التي تنتاب من فقدوا أحباءهم..
ولا يجب أن ندفعه بشدة ليستأنف حياته الطبيعية .. يجب أن يكون دفعنا له رقيقا غير محسوس.. وأن نترك الأيام لتلعب الدور الأساسي..
ولا يجب أن نحجب عنه أي مناسبة أو ظروف تذكره بحبيبه.. اجترار الذكريات يريحه.. والنسيان مستحيل.. ودفعه إلى التناسي أمر مضحك مبك..
وفوق كل ذلك يحتاج هذا الإنسان إلى درجة عالية من الإيمان.. لينزل على قلبه الثبات والسكينة والتقبل..
.. ولقد عايشت كثيرين بحكم مهنتي ممن فقدوا أحباءهم.. وحاولت مساعدتهم .. ورأيت وعايشت درجات متعددة من الأسى والحزن..إلا أنني على مدى ربع قرن لم أعرف إنسانا عبر عن حزنه بمثل هذه الكلمات التي أحزنت وأثرت في كل من قرأها، إلى الدرجة التيشعر فيها الجميع بيس بالتعاطف وإنما بالحزن الحقيقي، وكأن الفقد هو فقدهم الشخصي..
ماذا كتب هذا الإنسان معبرا عن أساه؟
ابنتي:
غربت شمس رفيقة الحياة بحلوها ومرها، وحضن الطهارة الذي كنت ألتمس فيه راحتي وواحتي.
ذبلت آخر نقطة ضوء في شمعة أحرقها سوط الألم، وأذابها عذاب المرض، واكتوت وحدها بأقسى ما يمكن أن يتحمله بشر..
كانت الزوجة ثم الصديقة ثم الابنة..
ثلاثون عاما في قارب واحد لا نفترق فيه، ولا يفرقنا شيء عنه حتى خيل للبعض أن كلا منا ظل يتبع ظله..
ومنذ تسع سنوات انحرف بنا قارب الحياة من نهر الآمال والأحلام، إلى تيه الآلآم والأحزان..
ككل شيء بدأ صغيرا محدودا، وانتهى كبيرا بلا حدود..
بلاد كثيرة ذهبنا إليها لم نزر فيها غير عيادات الأطباء ومعامل المستشفيات.. تعددت التقارير والتحاليل والمرض واحد..
نقص في مادة كيميائية يفرزها المخ.. مادة واحدة ولكن يالمعجزة الخالق وعظمته في عديد من الوظائف والمهام التي تقوم بها هذه المادة..
حتى محمد علي كلاي أعظم الملاكمين عندما افتقد هذه المادة فجأة لم تنفعه عضلاته وقوته.. تحول هرم القوة إلى كومة هشة من الضعف.. ولكن رفيقة عمري التي لم تكن في حجم أو قوة كلاي، لم تكتف فقط بما أصاب كلاي وإنما نالها فوقه ما يعجز الطب بكل فنونه وأساليبه عن علاجه..
ومن الدنيا التي ملأتها نشاطا وحيوية وخيراً، اكتفت آخر سنتين من عمرها بمقعد بجوار مكتبي في البيت نهارا وركن اليمين في سريري ليلاً..
كانت الزوجة والصديقة قد تحولت إلى الابنة بكل ما تحمله الكلمة.. ورغم أنها لم تكن في العام الأخير سوى حديث العيون بغير صوت أو لسان.. فلقد كنت أفهم كل ما تريد أن تقوله ابنتي..
جزء مني أصبح فيها، وجزء منها أصبح داخلي، ورغم أنني كنت وحدي أعرف النهاية، فلقد بدت لحظة غروبها وكأنها اختفاء للشمس وسط النهار..
لقد عرفت الله وذقت حلاوة الإيمان في مرضها، وعرفت الخير واستمتعت مذاقه في رفقتها.. ورغم هذا الإيمان فقد اعتصرني الحزن لأنني فقدت ابنتي الوحيدة.. كانت قوتي رغم ضعفها، وصوتي رغم صمتها، واتسامتي التي أحاول أن أخفف بها حزنها..
صديقي القارئ وأرجو أن تغفر لي فما أنا إلا بشر..
وريشتي أغمسها في قلبي، ولقد سقط القناع الذي حاولت طويلا أن أخفي خلفه مشاعر هذا القلب، وها أنذا أعترف ببغض ما أخفيته واثقا من سماحتك وعفوك..